صيام الحاج يوم عرفة
الكاتبة: د/ فاطمة بنت عويض الجلسي
الناشر: مجلة مناسك لعام 1426هـ
الحمدلله، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد..
فإن يوم عرفة من أعظم أيام العام، قال الله تعالى فيه (وشاهد ومشهود؟) فسر المشهود بيوم عرفة يشهده الناس والملائكة، قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله عزوجل يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبراً) رواه الإمام أحمد.
وقال عليه الصلاة والسلام (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) متفق عليه.
في هذا اليوم العظيم يشرع للمسلم أن يفرغ نفسه للذطكر والدعاء، ويشغل وقته بالاستغفار والتوبة من الذنوب حتى تغيب الشمس، ولهذ اليوم أحطكام تخصه، ومنها صيام يوم عرفة..
فهل يشرع صيام يوم عرفة للحاج؟ أم أن الصيام فيه منهي عنه؟!
اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على استحباب صيام يوم عرفة لغير الحاج لما جاء في السنة النبوية من الحث على صيامه، ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده) رواه مسلم، واختلفوا رحمهم الله في صوم الحاج بعرفة، فذهبوا في ذلك ثلاث مذاهب:
المذهب الاول: يكره للحاج صوم يوم عرفة، وإليه ذهب المالكية والدارمي والمحاملي والبندبنجي من الشافعية.
المذهب الثاني: يستحب للحاج أن يفطر يوم عرفة، وإليه ذهب الشافعية والحنابلة على المذهب، وبه قال أبو بكر وعمر وعثمان وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم.
المذهب الثالث: يفرق بينما إذا كان الصوم يضعفه عن الوقوف والدعاء أو لا.. فإن كان يضعفه فيكره، وإن كان لايضعفه فيستحب له صومه، وإلى هذا ذهب الحنفية والمتولي والروياني والخطابي من الشافعية، وهو قول ابن الزبير وعثمان ابن العاص وعائشة رضي الله عنهم وإسحاق وقتادة..
وسبب اختلافهم في حكم صيام يوم عرفة للحاج أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر يوم عرفة وقال (صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة والتي بعده) رواه مسلم.
واختلف الناس فيه.. هل يصام لقوله أو يفطر لفعله.. استدل أصحاب المذهب الأول القائل بكراهة صوم الحاج يوم عرفة بالسنة والمعقول، أما السنة :
1- فيما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة، وجه الدلالة أن الأصل في النهي أنه يفيد التحريم لكن صرفه عنه إلى الكراهة ما يلي..
2- ماجاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن صوم يوم عرفة فقال (حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصم ومع أبي بكر فلم يصم ومع عمر فلم يصم ومع عثمان فلم يصم، فأنا لا أصوم ولا آمر به ولا أنهى عنه)
وأما المعقول:
1- فقالوا يكره له الصوم لأن الفطر يقويه على الوقوف بعرفة
2- ولأن في الفطر بعرفة تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم
واستدل أصحاب المذهب الثاني القائل باستحباب فطر الحاج يوم عرفة بالسنة والمعقول، فمن السنة:
1- ما روت أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها أن أناساً تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه
2- وماروت ميمونة رضي الله عنها قالت: إن الناس شكوا بصيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فأرسلت إليه بحلاب وهو واقف في الموقف فشرب منه والناس ينظرون
وجه الدلالة أن النبي عليه الصلاة والسلام رغب في صوم يوم عرفة ثم أفطر، فدل على أن الإفطار بعرفة أفضل لأنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا الأفضل ولايقول فعله خلاف المستحب ولاسيما في الموضع نفسه
3- وعن عقبة ابن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب)
ومن المعقول
1- قالوا: إن الصوم يضعف الحاج ويمنعه الدعاء في هذا اليوم العظيم الذي يستجاب فيه الدعاء في ذلك الموقف الشريف الذي يقصد من كل فج عميق رجاء فضل الله ومنه وإجابة دعائه فكان تركه أفضل
2- إن الحاج ضاح، والضاحي البارز للشمس يناله من ذلك مشقة ينبغي ألا يصوم معها
3- أدلة أصحاب المذهب الثالث القائل بالتفريق بين ما إذا كان الصوم بعرفة يضعفه فيكره له الصوم وبينما إذا كان لايضعفه فيستحب صيامه بالسنة والآثار والمعقول، فمن السنة:
1- ماروى أبو قتادة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)
2- مارواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة
وجه الدلالة: دل الحديث الأول على الترغيب في صوم يوم عرفة وهو عام للحاج وغيره، ودل الحديث الثاني عن النهي عنه، وإنما نهي عنه لعلة، وهي الضعف عن الدعاء وشدة التعب بعرفة، فإذا كان كذلك فيكره الصوم لمن يضعف عن الدعاء لوجود العلة.
وأما الآثار فيما روي أن ابن الزبير وأسامة وعائشة رضوان الله عليهم كانوا يصومونه، أما المعقول: فلأن فضيلة صيام هذا اليوم مما يمكن استدراكها في غير هذه السنة، أما فضيلة الوقوف والدعاء فيه فإنه لايستدرك في حق عامة الناس عادة إلا في العمر مرة واحدة فكان إحرازها أولى.
وإن كان لايضعفه الصوم فيستحب له صومه لما فيه من الجمع بين القربتين.