مقال (1)

 

من آثار تغيّر أحوال النساء في الحجّ


مقدمة:

    خلق الله تعالى الخلق لإفراده بالعبادة، قال الله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ](1).

    وقدّر الله على المخلوق أن تمر عليه أحوال مختلفة في حياته؛ فمنها: ما يتمكّن معها من القيام بالعبادة كما شُرعت، ومنها ما تكون سبباً في منعه من أدائها، ومنها ما هو بين ذلك.

    ومن هذه الأحوال: الصغر والبلوغ، والنّوم اليقظة، والجنون والإفاقة، والمرض والصّحة، والإسلام والردّة.

    ومن رحمة الله بعباده أن جعل لكلّ حال ما يناسبها من أحكام، رأفة بعباده، وإظهاراً لحكمته وعدله.

    وهذا بحث مختصر في خمس مسائل من المتغيرات التي تصيب المرأة الحاجّة، وما يتعلق بها من أحكام، سائلة الله تعالى الإعانة، والنفع به لكاتبته وناشره وقارئه.

    أولاً: من أحرمت بالحج ثم أحصرت بمرض:

    الإحصار أن يحال بين الحاج وبين الوصول إلى بيت الله العتيق.

    وقد اتفق العلماء على أنّ الحاج إذا منعه العدو من الوصول إلى بيت الله، فإنه يتحلل، وعليه هدي(2).

    واختلفوا في المريض هل له حكم المحصر؟ على مذهبين:

    الأول: الحنفية ورواية عن أحمد: يرون أن المرض كالإحصار بالعدو، فمن مرض مرضاً يفوت به عليه حج العام، فإنه يتحلل، قال أبو حنيفة: يبعث هديه إلى مكة، ويتحلل إذا ذبح هديه، وقال محمد وأبو يوسف: بل لا يذبح ولا يتحلل إلا يوم النحر. وإن عدم الهدي، فيرى الحنفية: أنه لا يتحلل، بل يبقى محرماً إلى أن يجد الهدي حتى إن اشترط، فاشتراطه لا يُعفيه من الهدي، ويرون وجوب قضاء الحج على المحصر مطلقاً. وقال أحمد: يتحلل بالنية من حين يحصر في أي وقت، ويذبح الهدي في مكان إحصاره، في حل أو حرم، فإن عدم الهدي، صام عشرة أيام، وليس عليه قضاء، وإن كان قد اشترط بأن محلي حيث حبستني فلا هدي عليه(3).

    الثاني: مذهب المالكية والشافعية والحنابلة: لا يعدون المرض إحصاراً، وليس للمحرم عندهم أن يتحلل، بل يبقى على إحرامه إلى أن يبرأ، فإن فاته الحج، ثم برىء، فإنه يتحلل بعمرة، وعليه هدي الفوات، إلا إذا اشترط فلا شيء عليه، والمالكية لا يرون الاشتراط أصلاً. وعليه القضاء مطلقاً عند المالكية والشافعية، أما الحنابلة فلا يرون أن عليه القضاء(4).

    واستدل الحنفية وأحمد على أن المرض إحصار بقوله تعالى ] وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ فَإِنْ أُحْصِرتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدي [ (5). والإحصار عند أهل اللغة يكون بالمرض.

    واستدلوا من السنة بحديث: ((من كُسِر، أو عَرِج فقد حل وعليه الحج من قابل)) وفي رواية: ((أو مرض))(6).

    وبأنه صُد عن البيت بمرضه، فهو كالمصدود بعدو، والحاجة التي من أجلها شرع التحلل لمن صده العدو موجودة في المريض، وهي التيسير عليه من مشقة الإحرام.

   واستدل الجمهور على مذهبهم: بقوله تعالى ] وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ [ وهذا عام في كل حج وعمرة إلا ما استثنى الشارع، وهو الإحصار بالعدو فقط.

    وبحديث ضباعة بنت الزبير: أنها كانت شاكية، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تشترط.(7).

    قالوا: لو جاز لها التحلل بالمرض من غير شرط لأخبرها، ولم يعلقه بالشرط.

    وهي فتوى فقهاء الصحابة؛ كابن عباس وابن عمر وغيرهما رضي الله عنهم.

    والإحلال بالعدو رخصة، والرخصة لا تتعدى موضعها.         

    ثانياً: من أغمي عليها بعد وصولها الميقات:

    قد تصل من نوت الحج إلى الميقات، ثم يزول عقلها بإغماء أو نحوه، فهل يجوز لأحد من رفقتها أن يحرم عنها؟

    ذهب جمهور أهل العلم إلى عدم جواز الإحرام عنها؛ لأن الإحرام لابدّ له من نية بالقلب، والنية لا ينوب فيها أحد عن أحد. ولأن النائم لا ينوب أحد عنه في الإحرام، وغياب عقله أدنى من غياب عقل المغمى عليه، فلا تجوز النيابة في هذه الحالة. ولأن المريض لا تجوز النيابة عنه لأنه مرجو البرء، فكذلك المغمى عليه.

    وقال أبو حنيفة: بل يجوز، سواء كان ولياً أم لا. وسواء أذنت المغمى عليها أم لم تأذن. وشبّه حال مريدة النسك بمريد الصلاة إذا أغمي عليه، فيجوز لغيره أن يوضئه، بناء على أن مذهب أبي حنيفة عدم اشتراط النية للوضوء خلافاً للجمهور. واستدل أيضاً بعقد الرفقة بينهم، فإنهم قد أذن بعضهم لبعض في الطبخ وإيقاد النار والسقيا، ولا يحتاجون إلا أن يستأذن بعضهم من بعض، فكذلك الإحرام.

    أما صاحبا أبي حنيفة: محمد وأبو يوسف فقد قالا بجواز الإحرام عنها بشرط كونه ولياً، وأن تكون المغمى عليها قد أذنت له. واستدلا بقوله تعالى ] وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى [ (8) فهذا يدلّ على عدم صحة الاستنابة في الإحرام إلا بإذن؛ لأنه بإحرام غيره عنه لم يوجد منه السعي في التلبية، والإحرام من أفعال المناسك، وأفعال المناسك لا تصح إلا من المحرم نفسه، فكذلك الإحرام. وأما إذا كان ولياً فيجوز؛ لأن عقد الإحرام عقد لازم، والإلزام لا يكون إلا من ولي.

    والظاهر، والعلم عند الله، أن قول الجمهور هو الراجح؛ لأمور:

1-             قياس الإحرام على الوضوء، غير مسلم به؛ لأنّ الوضوء عبادة لا تصح إلا بنية.

2-      قياس الإحرام على الصغر، غير مسلم أيضاً؛ للفارق، فالإغماء لا يطول، ولا تُعرف مدته، أما الصغر فيطول، ومعروفة مدته غالباً.

3-             واستدلالهم بأمور الرفقة، غير مسلم لهم؛ لأن عقد الرفقة يتناول أمور السفر لا العبادات.

4-      واستدلالهم بالاستنابة في أعمال المناسك، ليس على إطلاقه، بل الطواف لا استنابة فيه، وعلى العاجز أن يطوف ولو محمولاً، وهو من أعمال النسك، فكذلك الإحرام. والله أعلم(9).

    ثالثاً: إذا حُجّ عن العاجزة ثم زال عجزها:

        إذا كانت المرأة عاجزة عن حجة الإسلام، وحج عنها غيرها، ثم زال عجزها؛ بشفاء من مرض، أو نحوه، فهل يلزمها أن تحج، أم أن حجّ غيرها عنها يجزىء عن حجة الإسلام؟

    في المسألة ثلاثة مذاهب؛ الأول: لا يجزئها إذا كان عجزها مرجو الزوال، ويجزئها إذا كان عجزها غير مرجو الزوال، وهذا مذهب الحنفية.

    والثاني: عليها أن تحج عن نفسها، ولا يكفي حج غيرها عنها، مطلقاً، وهو مذهب الشافعية.

    والثالث: يجزئها حج غيرها عنها، ولا يجب عليها حج آخر، مطلقاً، وهو مذهب الحنابلة(10).

    واستدل كل أصحاب مذهب بأمور:

    المذهب الأول: وهم الحنفية، قالوا: لما برىء من مرضه ظهر انتفاء الرخصة، فوجب عليه الحج بنفسه.

    المذهب الثاني: وهم الشافعية، قالوا: زوال عجزه دليل على أنه أخطأ في تقدير مرضه؛ لذلك تلزمه الإعادة.

    المذهب الثالث: وهم الحنابلة، قالوا: العاجز عن الحج؛ كالعاجز عن الصيام لهرم سواء، فإنه إذا أطعم عن الصيام ثم عُوفي، لم تلزمه الإعادة، فكذلك في الحج، ثم إنه أتى بما أمر به، وما هو في مقدوره، فيكون قد أدى ما عليه، فكيف نلزمه الإعادة؟ وقالوا: في إلزامه الإعادة إلزام له بحجتين، والدليل والإجماع قد قاما على أن حجة الإسلام واحدة، وهو قد أداها، ولا يمكن أن نلزمه إعادة الفرض إلا بنص، ولا نص ههنا، ولو كانت الإعادة ملزمة لبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سألوه عن حجهم عن العاجزين، والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة، والشارع إنما يكلف العبد بما غلب على ظنه، لا بما لا علم له به.

    والذي يظهر رجحان المذهب الثالث القائل بعدم الإعادة. والله أعلم.

    رابعاً: الحاجة يغمى عليها طيلة يوم عرفة:

    اتفق الفقهاء على أنّ من وقف بعرفة نائماً، ولم يستيقظ حتى دفع منها، أنّ وقوفه صحيح(11).

    والدليل: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه وقضى تفثه))(12).

    واختلفوا إن زال عقله بجنون أو إغماء، ولم يفق مطلقاً حتى دفع، على مذهبين:

    الأول: أنّ وقوفه صحيح، ولا دم عليه. وهو مذهب الحنفية والمالكية(13).

    واستدلوا بالإطلاق في الحديث السابق، وبأن الركن قد وُجد بعد نية الحج، فلم تمتنع الصحة؛ كالنائم، وأن الإغماء لا يبطل النسك بعد الدخول فيه بإجماع، ونية الوقوف بعرفة داخلة في نية الإحرام.

    الثاني: لا يجزئه الوقوف والحالة هذه. وهو رواية عن مالك، وهو المذهب عند الشافعية والحنابلة(14).

    واستدلوا بأن الوقوف بعرفة فرض، ويستحيل أداء الفرض دون نية؛ كالإحرام سواء، وبأن المغمي عليه غير مخاطب، ومثله عاجز عن أن ينوي.

    وقالوا: استدلال الفريق الأول بالحديث لا يصح؛ لأن فاقد العقل غير مكلف، وليس محلاً لأن ينوي، فكيف تصح عبادته؟ وتصحيح وقوفه إبطال لنصوص اشتراط النية والعقل. وكذا لا يصح قياس الوقوف بعرفة على الصيام؛ لأن الصيام من باب التروك، فهو ممكن مع زوال العقل، أما الوقوف فهو فعل يتعين فيه الشعور والقصد. وأما قياس المغمى عليه والمجنون بالنائم، فهو قياس مع الفارق، إذ النائم فيه نوع شعور بخلافهما.

    وبذا يظهر رجحان المذهب الثاني القائل بعدم إجزاء وقوف المغمي عليه.

    خامساً: من حاضت في الحج كيف تصنع:

        وهي مسألة أختم بها البحث، إن شاء الله تعالى؛ لكثرة وقوعها، ومسيس حاجة النساء إليها:

    قد عُلم أنّ من مناسك الحج الطواف؛ لقوله تعالى [وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالبَيْتِ العَتِيْقِ](15).

    والحيض مانع من الطواف بالإجماع؛ فعند الحنفية: مانع؛ لكون الحائض لا يجوز دخولها المسجد، وعند الجمهور مانع؛ لأن الطهارة شرط في الطواف(16).

    فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ حَاضَتْ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟)) قَالُوا: إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ. قَالَ: ((فَلاَ إِذاً))(17).

    ففي الحديث: أن الحيض مانع من الطواف.

    فكيف تصنع من أتاها الحيض؟

    عَنْهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا لاَ نَرَى إِلاَّ الْحَجَّ، فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ، حِضْتُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، قَالَ: ((مَا لَكِ، أَنُفِسْتِ؟)) قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: ((إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ))(18).

    ففي الحديث: أن الحائض إذا جاءها الحيض وهي محرمة، فإنها تصنع ما يصنع الحاج؛ من وقوف، ورمي، إلا أنها لا تطوف، ولا تسعى؛ لأن السعي تابع للطواف، فإذا طهرت طافت وسعت.

    أسأل الله تعالى لجميع الحجاج التوفيق والقبول.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

كتبته

د. فاطمة بنت عويض الجلسي

عضو هيئة التدريس بجامعة الملك عبدالعزيز

نشر هذا المقال الفقهي في مجلة مناسك عام 1427هـ

*****************************************
الهوامش:

 (1)سورة الذاريات، الآية56.

 (2)الدر المختار للحصكفي2/590، والخرشي على خليل2/388، وروضة الطالبين للنووي3/172، والمبدع لابن مفلح3/270.

 (3)بدائع الصنائع للكاساني2/179، وحاشية ابن عابدين2/590، والمغني لابن قدامة3/356، والمستوعب للسامري4/293.

 (4)الكافي لابن عبدالبر1/346، وحاشية الدسوقي2/96، ومغني المحتاج للشربيني1/533، ونهاية المحتاج للرملي3/370.

 (5)سورة البقرة، الآية196.

 (6)رواه أبو داود5/220، والترمذي4/8، والنسائي5/198، وابن ماجه2/1028، وصححه الترمذي والحاكم1/482.

 (7)متفق عليه: البخاري9/34، ومسلم8/382.

 (8)سورة النجم، الآية39.

 (9)المبسوط للسرخسي4/160 وحاشية ابن عابدين2/526 والبناية للعيني4/169، ومدونة سحنون1/321 ومواهب الجليل2/477 ، والمجموع للنووي7/20 ونهاية المحتاج للرملي3/237 ، والمغني لابن قدامة3/255 والمستوعب للسارمري4/69.

 (10)المبسوط للسرخسي4/153 وتبيين الحقائق للزيلعي2/85، والمجموع للنووي7/115 ونهاية المحتاج للرملي3/253، والتنقيح للمرداوي97، وشرح المنتهى للبهوتي1/519.

 (11)المبسوط للسرخسي4/63 وبدائع الصنائع للكاساني2/127، والخرشي على خليل2/321 والزرقاني على خليل2/269، والمجموع8/104 وروضة الطالبين للنووي3/95، والمبدع لابن مفلح3/234 وكشاف القناع للبهوتي2/127.

 (12)رواه أبو داود5/298، والترمذي3/542، وابن ماجه2/1004، وصححه الحاكم1/463.

 (13)المبسوط للسرخسي4/56، والخرشي على خليل2/321، وروضة الطالبين للنووي3/95.

 (14)المغني لابن قدامة3/416 والمبدع لابن مفلح3/234.

 (15)سورة الحج، الآية29.

 (16)المبسوط للسرخسي5/6 والبحر الرائق7/205 ومجمع الأنهر2/476، والمنتقى في شرح الموطأ2/373، والمجموع للنووي8/17 وشرحه على مسلم4/296.

 (17)متفق عليه: البخاري 6/254، ومسلم7/9.

 (18)متفق عليه: البخاري17/237، ومسلم6/220.


آخر تحديث
11/22/2008 12:38:02 AM